لا تحفيز يذكر في الأفق لرجال ونساء التعليم بل إنه زمن الإجهاز على جل المكتسبات التي ناضلت عليها أجيال وأجيال
لا تسمع مؤخرا إلا لغة واحدة فقط وهي الإجهاز على ما تبقى من المكتسبات التي ناضلت عليها أجيال وأجيال من رجال و نساء التعليم بالمغرب منذ ستينيات القرن الماضي و قد ضحوا بالغالي والنفيس، وتحملوا أشياء كثيرة فوق طاقاتهم وقدراتهم الشخصية ، ومنها الرواتب الهزيلة التي كانوا يتقاضونها مقابل ما يقدموه للمجتمع من خدمات جليلة في تكوين المواطن المغربي وتهيئه للاندماج السليم في الحياة العملية ؛ فكانت لاتسمن ولا تغني من جوع ، حيث لا تتعدى سوى 1350ده للمعلمين و2000ده للأساتذة بالإعدادي والثانوي خلال الثمانينات ،وكان الفرق غير شاسع بين الإعدادي والثانوي في الرواتب، عكس ما هو اليوم بين السلم 9 و10و11 وخارج السلم ، و كنت تراهم في صراع مرير مع تقلبات الزمان ومتطلبات العيش، بحيث كان الأستاذ يتحمل أعباء أسرته الصغيرة والكبيرة وخاصة إذا كان سيء الحظ ولم يتوظف سوى لوحده في الأسرة ؛ فسيكون له الشرف الكبير في أخذ مكانة والده في مصاريف العائلة فقط وليس في التدبير والتسيير؛ وهذا بعدما يكون قد عانى البؤس والفقر للحصول على وظيفة في قطاع التعليم ؛ والذي كنا نسميه بالأم الحنونة بلغة زمننا ؛ لأنه القطاع الوحيد الذي كان يمتس البطالة بشكل كبير في زمننا ، ويتم الإشهار له عبر وسائل الإعلام العمومية ، وذلك بأحد السلاليم التي منها من انقرض طبعا في القطاع بالتقادم كالسلم7و8 و القليل منهم في السلم 9 أما السلم 10 في زمننا فهو رقم قميص لا يلبسه إلا أصحاب مرادونا في زمننا لأن رقم 10 كنا نمزح فيما بيننا ونقول لبعضنا البعض مازحين ( وأنت ما لك لابس علينا10)، فإنها أجيال كالجبال مرت من هذا الوطن أعطت لتعليمنا من دمها ووقتها و حياتها ومستقبلها لكن للأسف الشديد الكثير منهم لم ينصف فقد كانوا بحورا عميقة ليس لها حدودا من العلوم و المعرفة ، كانوا رجال ثقافة بامتياز، والدليل المرجعي لما نقول فهذا أستاذ جيلنا أحمد بوخماخ الرجل الطنجاوي رحمة الله عليه و تعالى ما دام ترك وراءه علما ينتفع به ،ومن منا نحن شيوخ هذا القطاع لم يحفظ نصوص قراءتي وهو يرددها خارج أسوار المدرسة المغربية(يا إخوتي جاء المطر) إنه تاريخ تعليمنا المنسي لكنه بالنسبة لنا مدرسة حياتية و سيرة ذاتية حقيقية وطبيعية تعلمنا فيها كيف نعيش ونواجه العواصف وتقلبات الدهر، وعلمتنا المدرسة المغربية التقليدية عدة أشياء، ومنها الأخلاق الفاضلة من صدق في الكلام والإخلاص في العمل وحب الخير للأخر وحب طلب العلم والتضحية للحصول على الحق وحب التغيير وعدم الخوف من الآخر كيفما كان نوعه ما دمنا كلنا بشر. ولا فرق بين بني الإنسان إلا بالتقوى والأخلاق والعلم واكتساب المعرفة، فهذه النخبة التي تتوفر على هذه الصفات يحترمها المجتمع ويقدرها ويعترف لها بمكانتها خاصة لأن في زماننا كان للعلم وللعلماء والمفكرين والمثقفين مكانتهم ومركزهم الاجتماعي ( وقل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) الآية ...
فهؤلاء الرجال الحقيقيون منهم من قضى نحبه، وآخرون أمسوا شيوخا ما زالوا ينتظرون ، لكنم حافظوا على رمزيتهم و تاريخهم وتواجدهم كشخصيات ساهمت في تنوير الأجيال بالعلم والمعرفة و في بناء الإنسان المغربي ليواجه كل الإكراهات ويقول كلمته بين الأمم.
هذا الجيل عاش التقشف الصعب والشديد بكل أصنافه و أنواعه والبساطة في كل شيء ، سواء في اللباس أو السكن أو الأكل، لكن جل مثقفيه كانوا نشيطين في أحزاب اليسار والنقابات العمالية ( س/د/ت) وكانوا يحملون أفكارا تقدمية كلها تهدف لبناء الإنسان وتقدمه ورقيه. إنها أفكار حضارية تكونت لديهم من الثقافة الحديثة التي انفتحوا عليها سواء من خلال المراجع والكتب و المجلدات في العلوم الإنسانية أو من خلال البحث عنها في عاصمة الأنوار باريس من خلال إتمام الدراسة الجامعية هناك في شتى التخصصات العلمية... وهاهنا تذكرت أحد الطلبة إبان الستينيات عاد بأول دكتورة عرفها المغرب في علم الالكترونيات وكم من الأصدقاء رحلوا رحلتهم نحو المجهول لإتمام دراساتهم سواء في السوسيولجيا أو العلوم السياسية أو في علم النفس أو الأدب الفرنسي أو غيره ، وكان نظامنا التعليمي يساعدنا على إتمام دراساتنا الجامعية بفرنسا لأن جل المواد كنا نتلقاها بلغة المستعمر وأمسينا نجيد نطقها وكتابتها، أفضل من سكانها ، لأننا كنا نتوفر على جيل من الأساتذة والأستاذات المغاربة في المستوى البيداغوجي المطلوب ،كانوا رجالا بما في الكلمة للمعنى، وقد ساهموا في تكوين أبناء الشعب المغربي حتى تسلق جلهم الهرم الاجتماعي. وفي زمننا الماضي كان لتعليمنا دوره الكبير في الرقي الاجتماعي الذي افتقد اليوم لعدة تحولات سوسيو اجتماعية وثقافية...
فهذا الجيل عرف كيف يدافع عن حقوقه ، وكيف يطالب بتحسين ظروف عيشه نحو حياة أفضل عبر تنظيمات نقابية لا يستطيع الانضمام إليها في زمننا إلا القلة القليلة، والذين يحملون أفكارا ومبادئ ترسخت لديهم وآمنوا بها ويدافعون عنها ولو مقابل حريتهم، وكذلك عاشوا بيننا في قطاع التربية والتعليم وخاضوا جميع أنواع النضالات لتحقيق مطالبهم وتحسين ظروف الأغلبية في القطاع والتي تعاني في صمت، ولذلك كما أتذكر كان سوى الإعلان عن تاريخ للإضراب وخاصة من طرف النقابة التابعة لحزب الاتحاد الاشتراكي إنذاك (س/د/ت) له ما بعده لأن لا أحد سيعرف ماذا ستؤول إليه الأحوال ، وماذا سيقع من أحداث خلال هذا اليوم ومن الطبيعي لن تكون لصالح أي أحد، فكان الإضراب يخيف الجميع
ولم يبدأ يلوح الفرج إلا في تسعينيات القرن الماضي حيث تم إنزال الترقية الداخلية وإحداث الأكاديميات الجهوية وبذلك تمكن موظفي وزارة التربية الوطنية الترقي دون حاجة لتكوين وتغيير الإطار، كما كان معمولا به في القانون الأساسي السابق وبعدها عرف القطاع حركية في تغيير السلاليم من07 إلى 08 ثم إلى 9أما السلم 10 فقد كان ما زال حينها في عالم المثل لأن صاحبه يصل راتبه إلى 4500 ده ، وهذا المبلغ في زمننا يمكن أن تعيش به أسرة مغربية تتكون من 12 فردا مدة 3 أو4 أشهر كاملة
وانتظر الجميع بعض التحولات الوطنية والإقليمية والدولية في المجال الحقوقي وانتشار المباديء الديمقراطية وسقوط الأنظمة الشرقية وهيمنة النظام الرأسمالي الغربي بزعامة أمريكا ودخول المغرب كشريك استراتيجي خارج الحلف الأطلسي ومرور الاقتصاد الوطني من ظروف صعبة بعد التقويم الهيكلي خلال الثمانينيات مما جعل الملك الراحل الحسن الثاني يفاجيء المغاربة بكلمة لها حمولة جعلت الجميع ينزل إلى الأرض (المغرب أصبح مهدد بالسكتة القلبية) أي لا قدر الله الانهيار الاقتصادي الكامل ، والبلد أمست في خطر يهددها في أي وقت وحين وعلمها عند الله، وفي ظل هذه الظروف الصعبة تمت التوافقات بين اليسار المغربي بزعامة الاتحاد الاشتراكي والملك الراحل الحسن الثاني على تشكيل حكومة يتسلم وزارتها الأولى الرجل الوطني والشخصية الكاريزمية الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي في ذلك الوقت. وهو الآن ما زال في الذاكرة السياسية المغربية المعاصرة ،وما تسميت أكبر شارع بطنجة باسمه وزيارته مرتين بالمستشفى من طرف الملك محمد السادس إلا اعترافا بقيمة هذا الرجل الشهم المحب لوطنه والوطني حد النخاع
فخرجت حكومة ما أمسى يعرف بحكومة التناوب سنة1998 وبوجوه كان لها حضورها في المساهمة في التدبير والإبداع والخلق والحكامة في جل القطاعات الحكومية لأنهم تربوا في مدرسة اليسار وكانوا يحملون البديل ويحلمون به منذ سنين طويلة ، وخلال فترة و جيزة بدأ المغرب ينتعش اقتصاديا ويخرج من مرحلة الخطر ،و بدأ المغاربة يعيشون حياة سياسية جديدة رغم العراقيل التي كان يخلقها إدريس البصري لهذه الحكومة بين الفينة و الأخرى لأنه كان في زمننا يعتبر الصدر الأعظم بل الكل في الكل، ولا بد أنه سيستشعر بالخطر يداهمه في أي نجاح لهؤلاء القادمون الجدد ، ولن يكون بالطبع لصالحه.
وفي عهد حكومة التناوب عرف القطاع التعليمي إصلاحات كبرى كما فتحت أيضا مشاريع كبرى ساهمت في تطوير الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحقوقية بالمغرب ما زلنا نجني ثمارها حتى اليوم . وتمت ترقية أكثر من50000 موظف وموظفة كترقية استثنائية وتم إنزال بنود ودعامات الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وفتح الباب أمام باقي القطاعات الأخرى للاستفاذة من الترقية الداخلية نحو سلاليم كانت في الأحلام كالسلم11 وخارج الإطار وبعدها سيتم تأسيس مؤسسة محمد السادس للأعمال الاجتماعية لأسرة التربية والتكوين وتتوالى الزيادات في الرواتب ونقص بعض النقط من الضريبة على الدخل وفتح المخيمات الصيفية وطرح الدرجة الممتازة خلال إتفاق26 أبريل والتعويض عن العالم القروي لقطاعي التعليم والصحة
لكن قطاع التربية والتكوين سيعرف التراجعات الكبرى والانتكاسة على جميع المستويات خلال الولاية الحكومية بأغلبية حزب العدالة و التنمية خلال 5 سنوات كاملة ، بحيث تم التفكير في الإجهاز على المكتسبات التي ناضلت من أجلها أجيال وأجيال لا على مستوى الاشعاع للمدرسة العمومية وعرضها التعليمي والبيداغوجي ولا على مستوى الموارد البشرية وتحفيزها للبدل والعطاء والانخراط في كل الإصلاحات وتحديث القطاع بحيث تم تمرير ما أمسى يلقب بإصلاح صندوق التقاعد واقتطاعاته وما حمله لرجال ونساء التعليم من إكراهات مادية ونفسية تضاف إلى ما يعيشه القطاع من اكتظاظ غير مقبول بيداغوجيا والاقتطاعات المتوالية لكل أيام الإضراب التي تخوضها الشغيلة التعليمية لتبلغ صوتها ومعاناتها مما صارت تعيشه من ظروف لا تحتمل مما أصبح يهدد القطاع بالمغادرة الجماعية لموارده البشرية وخاصة العاملين بالقسم
وما عرفه الشارع المغربي طيلة شهور عديدة من مسيرات وتظاهرات للأساتذة المتدربين ضد المرسومين وعدم الالتزام بتوظيفهم إلا غيض من فيض لما يعيشه قطاعنا التعليمي من مشاكل بنيوية واجتماعية. وما أقدمت عليها الوزارة من خطوات اعتباطية في فك المشكل والتحاقهم بمقرات عملهم دون حصولهم على تكوين نظري وبيداغوجي طيلة سنة، مما يمكنهم من تقديم الإضافة وتجديد القطاع وتطويره بفضل هذه السواعد الشابة، لكن للأسف الشديد كان لهذه الحكومة رأي آخر فهي لها نية أخرى و بإنزالها للعقدة في الصحة والتعليم سنغيب الدولة الاجتماعية عاجلا أم آجلا
فمشاكل القطاع تحتاج إلى أصحاب النوايا الحسنة، والذين يحملون هم المدرسة الشعبية المغربية لتعود لمجدها كما كانت ، لكن ليس بالعقدة وتأزيم رجال ونساء التعليم بالإجهاز على مكتسباتهم والبحث عن كل السبل في جعلهم طرفا مباشرا أوغير مباشر فيما يتخبط فيه القطاع التربوي/ التعليمي من مشاكل وكوارث كما يقول المغاربة(طاحت الصومعة علقوا الحجام) وفي ظل الظروف الاستثنائية التي يتخبط فيها القطاع لدينا أمل في المستقبل في ظل ما حمله الخطاب الملكي السامي من العاصمة السنغالية دكار. فلا بد من تشكيل حكومة جادة ومسؤولة وتتكون من خيرة أبناء وبنات هذا البلد كفاءة وخبرة وأخلاقا ليعطوا الدروس لكل الذين لا يجعلون همهم الأول والأخير الوطن والمواطن ومستقبلهما وهم قد تحملوا المسؤوليات السامية لتدبير شؤونه
عبد الرحيم هريوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق